من اعداد: بلال علييو
مدخل إلى المشروع الترابي
تقديم عام:
تطرح مسألة التنمية في ظل ظرفية دولية محكومة بأزمات
اقتصادية واجتماعية، وسياسية، وبيئية، عميقة ومتتالية. وظرفية متسمة بتفاوت
الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية..، وما يترتب عنها من تعميق للفوارق
بين الشرائح الاجتماعية وتزايد الضغط على الموارد الطبيعية المتاحة في ظل تغيب
طويل لبعد الاستدامة في استغلالها وتدبيرها، إضافة إلى ضعف فعالية التدبير
العمومي، وغياب سياسة حقيقية لإعداد المجال.
وبقدر ما سيكون لهذه العوامل من مفعول سلبي، على سير
عملية التنمية، عبر قابلية المجتمع للانخراط في سياقات، ومسالك جديدة، تفرضها هذه
الأزمات، والمرتبط في جزء كبير منها بالمسافة الواسعة بينه وبين اتخاذ القرار
وتدبير المجال بصفة عامة بما يتضمنه من مؤسسات وموارد، فالموارد والمؤسسات التي لا
يشعر الانسان اتجاهها بالمسؤولية النابعة في جزء كبير منها بإحساسه بالامتلاك
الجماعي لها، تصبح عرضة للتدهور والزوال.
تشكل التنمية الترابية المستوى الأعلى ضمن مقاربة
التنمية، وبذلك فالتراب يشكل الإطار الأمثل لتجسيد أهداف التنمية على جميع
المستويات، وهي بذلك تعني بتحقيق وتجسيد الأهداف وركائز التنمية المستدامة ذات
البعد الكوني على مستوى مجالي ترابي قد يكون وطنيا أو جهويا أو محليا. وقد برز
مفهوم التنمية الترابية كمقاربة جديدة للتنمية، تحاول تجاوز النظرة الاقتصادية
للتنمية التي كانت سائدة إلى حدود السبعينات من القرن الماضي. وتسعى هذه المقاربة
إلى إدماج مختلف مكونات المجال الترابي المحلي في مقاربتها للتنمية، فهي تعبر في
مضمونها على استراتيجية للتنمية.
فالتنمية تقتضي الاستجابة لمتطلبات الساكنة من مختلف
نواحي الحياة كالصحة والسكن والولوج للتعليم والمعلومات وجودة الحياة والبيئة، كما
تعتمد استراتيجية التنمية الترابية في مقاربتها للمجال على تجاوز مختلف التدخلات
القطاعية والمجالية التي كانت سائدة، إلى مقاربة أكثر انفتاحا على مكونات الفعل
الترابي. وبالتالي السعي نحو خلق مشاريع ترابية تنموية تهدف إلى الحد من التدخلات
القطاعية وتشجيع التدخلات المجالية الشمولية المشتركة لكل الفاعلين. وبهذا يتبادر
إلى ذهننا عدة تساؤلات يمكن صياغتها على النحو التالي:
-
ما مدى دينامية مفهوم التنمية ومراحل تطوره؟
-
كيف يمكن لإعداد التراب أن يوجه التنمية المجالية؟ وما
هي المقاييس الترابية للتنمية المجالية ودورها في تحقيق التنمية؟
-
كيف يمكن للمقاربة الترابية أن تكون دعامة للتنمية
المجالية؟
-
وإلى أي حد يمكن القول أن المشروع الترابي ركيزة المقاربة
الترابية؟
I.
دينامية المفهوم ومقاربة التنمية:
1. تطور مفهوم التنمية:
كانت مقاربة التنمية خلال الخمسينات والسبعينات من القرن
الماضي مقاربة اقتصادية صرفة، لاعتقاد القائمين على قضايا التنمية أن هذا المدخل
يمكن له أن يطور الحياة العامة للمجتمع، وأكد آنذاك علماء الاقتصاد في أعقاب الحرب
العالمية الثانية بعد أن حصلت معظم الدول النامية على استقلالها على ضرورة تبني استراتيجية التنمية الاقتصادية، وبكونها
تهدف إلى استخدام الموارد الطبيعية لتحقيق الرفاه الاقتصادي لأفراد المجتمع واستغلال
هذه الموارد بأفضل الطرق، مركزة على الجانب المادي فقط.
غير أنه مع عقد السبعينات والثمانينات أدرك المختصون
بأنه من الممكن لدولة ما أن تشهد نموا سريعا في الجانب الاقتصادي لكنها تظل متخلفة،
مما عزز القناعة أن التنمية الاقتصادية
لوحدها غير كافية للنهوض بالتنمية الشاملة لأي بلد، ومن هنا أتت ضرورة إجراء
مقاربات متعددة الاختصاصات تأخذ في الحسبان الابعاد الثقافية والاجتماعية
والانسانية للخروج من اختزال التنمية في نمو الثروة المادية.
هذا، ودعت الضرورة إلى ظهور مفهوم التنمية البشرية والذي
يعد حصيلة جهد فكري طويل نجد له جذورا في الفكر الاسلامي والخلدوني على الخصوص، وفي
الفكر الماركسي ومفكري اقتصاد التنمية الذي انتشر في الستينات وما بعد وعلى الاخص
حركة المؤشرات الاجتماعية ومقاربة الحاجيات الاساسية ونوعية الحياة وأعمال مؤسسات
مثل معهد الامم المتحدة لبحوث التنمية الاجتماعية وجامعة الامم المتحدة، فمسيرة
التنمية البشرية هي جزء من الكل فهي لم تطرح مستقلة بحد ذاتها، بل تطور مفهوم
التنمية البشرية من عقد إلى آخر مع تطور الأصل، وكان مفهوم التنمية منذ الحرب
العالمية الثانية وحتى نهاية عهد الثمانينات مقتصر على كمية ما يحصل عليه الفرد من
السلع والخدمات المادية، لكن مع بداية التسعينات برز مصطلح التنمية البشرية والذي
جاء بديلا وموسعا لمصطلحات متعددة أطلقت على عملية جعل الانسان هدفا للتنمية مثل
(تنمية الموارد البشرية، تنمية العنصر البشري، تنمية الرأسمال البشري...)، أما
الولادة الأولى لنظرية الرأسمال البشري فقد تم الاعلان عنها سنة 1961 من قبل
تيودور شولتز Theodore W.SCHULTZ، الذي وضّح بأن الاستثمار في الرأسمال
البشري هو السبب في الانتاجية المرتفعة للأقطار التكنولوجية المتقدمة، وتطورت
الدراسات بعد ذلك إلا أنها بقيت تعالج نفس الابعاد تحت عناوين مختلفة.
فمع بداية السبعينات حدث تحول حاد في تحديد أهداف
التنمية، فبعد أن كان جل التركيز على متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي
كهدف للنمو الاقتصادي، تزايدت الدعوات لتبني أهداف أخرى ترتبط بالعمل على التخفيف
من حدة الفقر وذلك بتحقيق عدالة أكبر في تحقيق الدخل.
زد على هذا، ظهرت عدة مفاهيم للتنمية المستدامة من قبل
العديد من المؤسسات والمنظمات الدولية وكذلك الخبراء والاقتصاديين.
فقد عرَف الاتحاد العالمي للمحافظة على الموارد الطبيعية
أن التنمية المستدامة هي السعي الدائم لتطوير الحياة الانسانية مع الاخذ بعين
الاعتبار قدرات النظام البيئي الذي يحفظ الحياة، أما المؤتمر الدولي للأمم المتحدة
المنعقد بكوبنهاكن عام 1995 فقد تبنى رؤية سياسية واقتصادية وأخلاقية وروحية
للتنمية مبنية على كرامة الانسان وحقوقه والمساواة والاحترام والسلام والديمقراطية
والتسامي على مختلف القيم الدينية والاخلاقية.
ولهذا أصبح من المفروض أن تسعى التنمية المستدامة إلى
التوفيق بين الابعاد الاربعة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية ثم التكنولوجية.
· البعد الاقتصادي: ويتضمن
هذا البعد الانعكاسات والمؤشرات الحالية والمستقبلية للنشاط الاقتصادي على البيئة
والذي يتضمن:
- معدل نصيب الفرد من
استهلاك الموارد الطبيعية؛
- القضاء على الفقر؛
- الحد من التفاوت في
توزيع المدخول؛
· البعد الاجتماعي:
ويتضمن هذا البعد المستلزمات الاجتماعية لتحقيق التنمية المستدامة واستمرارها:
- الحكامة الجيدة وتعد
من أهم متطلبات التنمية المستدامة؛
- توفير خدمات الصحة
والتعليم...؛
- السيطرة والتحكم في
نمو السكان وتوزيعهم؛
· البعد البيئي: ويعني
البعد البيئي للتنمية الاقتصادية تحقيق الرفاهية الاقتصادية للأجيال الحاضرة
والقادمة مستقبلا، مع الحفاظ على البيئة وحمايتها من التلوث وتمكينها من توفير
مستوى معيشي يتحسن باستمرار مع مرور الزمن وأن هذا البعد يتضمن:
- المحافظة على الموارد
المائية...؛
- حماية المناخ من
الاحتباس الحراري؛
· البعد التكنولوجي: أدى
استخدام التكنولوجيا إلى زيادة الانتاجية وانعكاسه على تحسن المستوى المعيشي ومن
أهم أبعاده هي:
- استعمال التكنولوجيا
النظيفة في الصناعة.
- تبني التكنولوجيا
العالية الجودة.
فبعد كل هذه الجهود المبذولة
لتطور مفهوم التنمية من تنمية اقتصادية إلى تنمية بشرية ثم التنمية المستدامة،
وصولا بنا إلى الحديث عن التنمية المندمجة والتي تسعى هي الاخرى إلى رفع مستوى
الفرص في الحياة للأفراد الذين يعيشون في مجتمع ما دون التأثير على حياة أفراد
آخرين في الوقت ذاته وفي المجتمع ذاته، ويكون هذا الارتفاع ملموسا فيما يتعلق
بالخدمات الشاملة والانتاج، والتي تكون مرتبطة بشكل مباشر في حركة المجتمع، وتعتمد
على استخدام الاساليب العلمية الحديثة في المجالات التكنولوجية والادارة.
2. من مفهوم التنمية
إلى التنمية البشرية المستدامة:
تعد التنمية عملية متعددة الابعاد ومتنوعة المجالات ورغم
أن النمو الاقتصادي يمثل جوهر عملية التنمية والقوة الدافعة لها. إلا أن هذا لا
يقل من أهمية الابعاد الاخرى للتنمية سياسية كانت أو بشرية فبناء المؤسسات
السياسية وتمكينها وتفعيل دورها وتشجيع الممارسات الديمقراطية أحد المؤشرات
الاساسية لمستوى التنمية الذي حققته الدولة، كما يمثل التعليم قاعدة الانطلاق
الحقيقية للتنمية وذلك بالنظر إلى دوره في تحقيق التنمية البشرية والارتقاء بقدرات
ومعارف ومهارات الافراد الذين يساعدون في بناء العملية التنموية وتشكيل اتجاهاتهم
وقيمهم.
فالتنمية
ليست خلق شيء من عدمه ولكنها استثمار للطاقات والقدرات المادية والبشرية الموجودة
في المجتمع لتحقيق الرفاهية للجميع، لذلك أصبحت التنمية عملية شاملة متكاملة يتوقف
نجاحها على ما يقوم به البشر من جهد متعدد الجوانب والأشكال. ونظرا لتباين مستوى التنمية
بين الدول المتقدمة وتلك النامية، فقد انقسم الفكر المعاصر في تعريفها إلى تيارين
رئيسيين: أحدهما يمثل الفكر الاقتصادي
الغربي الذي عرف التنمية بأنها "العملية الهادفة إلى طاقة تؤدي إلى تزايد
دائم في متوسط الدخل الحقيقي للفرد بشكل منتظم لفترة طويلة من الزمن"، أما
التيار الآخر، فقد تمثل في الدول النامية والتي عرفت التنمية على أنها
"العملية الهادفة إلى إحداث تحولات هيكلية اقتصادية اجتماعية يتحقق بموجبها للأغلبية
الساحقة من أفراد المجتمع، مستوى من الحياة الكريمة التي تقل في ظلها عدم
المساواة، وتزول بالتدريج مشكلات البطالة والفقر والجهل والمرض، ويتوفر للمواطن قدر
أكبر من فرص المشاركة، وحق المساهمة في توجيه مسار وطنه ومستقبله".
فلضرورة
الحفاظ على الموارد الطبيعية القابلة للنضوب، وعلى البيئة والتوازنات الجوهرية في
الأنظمة البيئية على إثر هذه الاختلالات بدأ مفهوم التنمية المستدامة وانتشر
استعماله بسبب تكاثر الاحداث المسيئة للبيئة وارتفاع درجة التلوث عالميا، وانتشر
ايضا في الادبيات الاقتصادية الخاصة بالدول النامية نظرا لتعثر الكثير من السياسات
التنموية المعمول بها، وقد استقر الرأي تدريجيا على أن السياسات التنموية، لكي
تؤدي إلى إنماء قابل للاستمرار يجب احترام مقومات البيئة التي يعيش فيها الانسان فحسب،
بل عليها أيضا أن تراعي قدرة كل الفئات الاجتماعية على تحمل التغيير والاستفادة
منه على قدم المساواة، ولهذه الاسباب امتد نطاق المفهوم إلى القضايا الانسانية
والبشرية وأصبحت النظريات التنموية تركز أكثر على هدف التنمية، أي الانسان،
وأحواله الصحية والثقافية والسياسية، وذلك على خلاف الفترات السابقة التي كان
التركيز ينصب على وسائل التنمية المادية.
II.
إعداد التراب وتوجيه التنمية المجالية:
إعداد التراب
والتخطيط الاقتصادي والاجتماعي سياستان يجمع بينهما قاسم مشترك في سعيهما لتحقيق
نفس الهدف التنموي: فهما يشكلان ترجمة لمجهود واع وإداري للدولة من أجل استشراف المستقبل
وتقليص نسبة الشك لكنهما يتمايزان عن بعضهما، بل ويتعارضان، بالنظر إلى عدة خصائص:
الهدف من التخطيط وبعده الزمني وخطواته العملية كلها أمور تميزه عن إعداد التراب.
فالبعد المجالي والبحث عن إحداث التوازن فيما بين الجهات
هو ما يطبع إعداد التراب ويشكل أهم مرتكزاته. فهو يهتم بالتوزيع الجغرافي لثمار
التنمية أكثر من اهتمامه بإحداثها، ويعتمد اعداد التراب على مقاربة استراتيجية تنطلق
من التوقعات وتسعى للبحث عن عوامل محركة لإنجاز القطيعة وصناعة المستقبل.
كذلك فإن اعداد
التراب لا ينحصر في توقعات محدودة المدة، فالاختيارات التي يتم تبنيها في مجال
إعداد التراب لا تفرز نتائجها إلا بعد تطبيق مجموعة من المخططات وتستلزم إعداد
آليات خاصة تعطي فترات ممتدة تصل إلى العشرين أو ثلاثين سنة.
إعداد التراب
هي عملية يمكن عن طريقها تنسيق وتوحيد أداء الافراد الفاعلين بمختلف مستوياتهم وتوقعاتهم،
في إطار جهود الهيئات الحكومية، لتحقيق التنمية المستدامة الشاملة والمتوازنة.
فهذا النوع من التنمية هو حركة تهدف إلى تحسين الاحوال المعيشية للسكان في مكوناته
الذاتية إذا أمكن ذلك. فالهدف من إعداد التراب هو تحقيق توزيع جيد للأنشطة
والساكنة على امتداد التراب، والحد من الفوارق، وتحسين شروط استقرار السكان. إلا
أننا وراء هذا كله. نجد دور الدولة وتدخلاتها من خلال التهيئة والاعداد والحفاظ على
روابطها مع المجال، ولتعقد التراتبيات المجالية من المحلي إلى الجهوي إلى الوطني
فعمليات بناء التراب تسيطر عليها الدولة من خلال مراقبة وحدتها الترابية، وممارسة
سلطتها وكفاءتها عليه.
يرتبط إعداد
التراب بالتنظيم الشولي للمجال، كمجموعة من العمليات التي تهدف إلى خلق توازن
تنموي بين مختلف الجهات. ذلك أن القضاء على الخلل واللاتوازنات بالمعنى الجغرافي يقوم
على توزيع عادل للأنشطة والثروات (عدالة مجالية) بين مختلق جهات التراب الوطني.
رغم ما تطرحه منهجيا إشكالية تعدد العناصر الجغرافية وتداخلها وتشابهها، أي كونها
مجتمعة وقريبة من بعضها البعض، وتوفرها على عدة خاصيات مستقلة، فإنه لا يمكن
اختزالها في عنصر واحد، رغم هيمنة بعض العناصر الاخرى. ولكن يبقى مع ذلك إعداد
التراب كمجموعة من عمليات التشاور، من غاياتها الترتيب المنظم للسكان والأنشطة
والمباني والتجهيزات ووسائل الاتصال على امتداد التراب.
لقد ارتبط
تصور التهيئة والإعداد بمبدأ السيادة والوحدة، للحفاظ على التوازنات
الماكرو-اقتصادية على المستوى الوطني. أما التراب الجهوي فله دو أساسي يكمن في
الوساطة التي تقوم بها، في تجميع الأقاليم التي تنضوي تحته، والإشراف عليها، أما
التراب المحلي فله دور الوساطة الفرعية بين المستوى الإقليمي والجهوي والوطني،
بالإضافة إلى وظيفة القرب من الساكنة المحلية.
جدول1: أبعاد الاستراتيجية الوطنية لإعداد التراب
بالمغرب
الترتيب
|
غايات SNAT
|
عدد
أهدافها
|
النسبة (%)
|
1
|
إعداد المنظومة الحضرية
|
13
|
25,49
|
2
|
تأهيل البوادي
|
9
|
17,65
|
3
|
تنمية الصناعة والسياحة والصناعة
التقليدية
|
7
|
13,73
|
4
|
التنظيم المؤسساتي
|
6
|
11,76
|
5
|
هيكلة قطاع النقل
|
5
|
9,80
|
6
|
إصلاح التعليم والتكوين
|
4
|
7,84
|
7
|
التدبير المعقلن للمياه
|
3
|
5,88
|
8
|
دعم المناطق الحدودية
|
2
|
3,92
|
9
|
تثمين التراث
|
2
|
3,92
|
المجموع
|
تسع غايات
|
ذات 51 هدفا
|
100
|
المصدر: المجلة المغربية
للتدقيق والتنمية
تجد سياسة إعداد التراب، كأية سياسة عامة
أخرى- تمظهرا لها في شكل مجموعة من الاجراءات الفعلية المتمفصلة فيما بينها
"منظومة من القرارات" تمثل برنامجا منسجما، فهي تستلزم تحديدا للغايات
والتوجهات والأولويات وتستدعي تعبئة موارد، قانونية ومادية ورمزية – لتحقيق ما تم
تسطيره من أهداف. وذلك من أجل الوصول إلى أكبر قدر ممكن من الانسجام فيما بين أدائها
وطبعها بطابع العقلنة.
هذا البحث والانسجام والعقلنة الذي كان
يتم البحث عن تأمينه في الماضي، وبطريقة اتسمت بالنقض عبر برامج للحكومة، يمر
اليوم وفي العديد من الدول، من خلال تحضير وثائق تركيبية ذات طبيعة استشرافية،
تحدد الأهداف التي يستوجب تحقيقها، وتعبئة الموارد اللازمة لذلك لفترة محددة.
وإدراج الاختيارات أكثر في إطار استراتيجية شمولية، تمكن من التنسيق فيما بين
قرارات ظرفية متتالية في الزمن وممتدة في المجال.
فسياسة إعداد التراب الوطني، تتبلور
انطلاقا من مبادئ تدعيم الوحدة الوطنية، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية،
والمحافظة على البيئة ثم إشراك السكان في التسيير، وهذه المبادئ تتضح في اختيارات
قطاعية أهمها تأهيل الاقتصاد الوطني والتأهيل الحضري والقروي، وتوجهات مجالية
تراعي عدة اعتبارات أهمها التنمية المتوازنة والموسعة.
كما أصبحت الحاجة ماسة إلى اعتماد رؤية
سياسية واضحة تجاه قضايا إعداد التراب الوطني خاصة، بعد تبني دستور 2011. كما أن
نهج جهوية متقدمة من شأنه أيضا استحضار توجهات إعداد التراب الوطني والتنمية المجالية،
من أجل بناء لا مركزية حديثة ولا تركيز إداري، باعتبار المقاربة الجديدة لسياسة
إعداد التراب هي "الوسيلة الأفضل للحد من التفاوت الجهوي، وأداة للتطوير العقلاني
للمشهد الحضري وإنعاش العالم القروي وأمثل طريقة للتوفيق بين النجاعة الاقتصادية
وحماية الثروات من جهة وبين العدالة الاجتماعية والحفاظ على البيئة من جهة
أخرى...".
إن الهدف من إعداد التراب كونه تلك
العملية التقنية والفنية والإدارية، هي السعي إلى تحقيق تنمية متناسقة ومتوازنة
بين جميع الجهات والمناطق، عن طريق توزيع عادل للثروات والانشطة الاقتصادية
والاجتماعية، فهي السياسة التي ترمي إلى توزيع متساو للأشخاص والموارد والانشطة على
مستوى التراب الوطني وتحسين ظروف عيش الانسان في إطار بيئة سليمة ومتوازنة
والمساهمة في تدعيم سياسة اللامركزية، التي تعد علاجا ناجحا للتخفيف من مشكل ثقل
العبء على الاجهزة المركزية، وتترك المجال مفتوحا للمبادرة المحلية لتتحمل
مسؤوليتها في عملية اتخاذ القرار التنموي انطلاقا من كونها أكثر احساسا بحاجات
محيطها ووعيا بمشاكله وإدراكا لحجم الامكانات المتاحة وبالنتيجة فهي الاحق بترتيب
وتصنيف سلم الاولويات حتى تتمكن المناطق المتأخرة من اللحاق بالمناطق الاكثر
تقدما، تحقيقا للهدف الأسمى الذي يسعى إليه إعداد التراب، ألا وهو إحداث التوازن
بين مختلف المناطق والجهات.
إلا أنه مما تجب الاشارة إليه أن إعداد
التراب إذا كان يعني تحقيق توازن عادل بين الأقاليم والجهات وبين البوادي والمدن
وبين الانسان والبيئة عن طريق توزيع متساويين الأشخاص والموارد والأنشطة، فذلك لا
يعني إغفال الخصوصيات المحلية أو الامكانيات المادية لكل جهة، فلا يمكن مثلا تعميم
تصميم واحد يتجاهل الطابع الخاص لكل جهة، فمنطقة صناعية، مثلا لا يمكن أن تخضع
لنفس التصميم الذي ستخضع له منطقة سياحية أو فلاحية.
إذن، فأدوات إعداد التراب تتوخى وضع
تطبيق مخططات تنموية انطلاقا من التوجهات العامة للتنمية على الصعيد الوطني،
وانتهاء بتلبية حاجيات كل جهة من الجهات، بالارتكاز دائما على استثمار الموارد
الاقتصادية وترشيد كل الطاقات البشرية وتسخير كل الأنشطة والخدمات ضمن هذه المخططات
التي تزداد أهميتها في كونها تمتد في الزمان المتوسط والبعيد، فتراهن على تنمية،
مدتها تتجاوز أحيانا عشرين سنة.
III.
المقاييس الترابية للتنمية المجالية:
تكتسي إشكالية التنمية بالمغرب أهمية بالغة منذ الحصول
على الاستقلال، وذلك بالنظر إلى المخلفات السلبية للاختلالات الجغرافية القائمة التي
خلفها المحتل وتحديات الانفتاح والتنافسية، وهو ما استدعى نهج سياسة ذات بعد
استراتيجي شمولي للتنمية وتدبيره وتبني مقاربة جديدة تهدف إلى التوفيق بين
الطموحات لإعادة توازن التنمية والاكراهات المرتبطة بمتطلبات المنافسة، وذلك من
خلال ترشيد هيكلة التراب الوطني وتجاوز الاختلالات الاجتماعية والمجالية. وبالتالي
فالمحتل ومن خلال الأساليب التنموية التي نهجها، وفق هدفه هو السيطرة والتحكم في
التراب والقضاء على المقاومة من جهة، ومن جهة أخرى نهب ثروات البلاد واستنزاف
خيراته، من خلال تقسيم البلاد إلى مغرب نافع وأخر غير نافع أو بصيفة أخرى بلاد
المخزن وبلاد السيبة، مما أحدث اختلالات كبيرة على مستوى أقاليم المملكة.
كان اهتمام الجغرافيون للمجال متمحور على أنه مجرد عائق
يمكن تجاوزه عبر النقل ووسائله، وذلك قبل أن يتطور في الوقت المعاصر إلى ما هو أهم
من ذلك، حيث أصبح يرتبط بتمركز السكان والشركات والثروات والمصانع
والأسواق...تمركزا متوازنا مبنيا على أسس وقواعد أضحت تسمى قواعد إعداد التراب
الوطني التي تعتبر الجهة إحدى مرتكزاته. مما لا شك فيه فإن قطاع التنمية المجالية
يشكل نقطة تلاق بين جميع السياسات القطاعية في سياق نظرة شمولية بهدف الحد من
التفاوت الجهوي، وإبراز المؤهلات التنموية الكفيلة بإنتاج الثروات الجديدة ومن ثم
توفير الشغل، كما يعتبر أمثل طريقة للتوفيق بين النجاعة الاقتصادية والعدالة
الاجتماعية مع الحفاظ على البيئة في إطار نهج تنمية مجالية مستدامة. فالمجال هو
ذلك الإطار الذي يجمع الانسان والثقافة والتاريخ والأرض والهوية، فالمجال يؤخذ
بالمقاربة الشمولية.
تدبير
التنمية المجالية على ضوء اختصاصات مجلس الجهة:
إن انتشار أفكار التنمية المجالية والمحلية تزامن مع
تداعيات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتنامي الفوارق المجالية وتعاظم هجرة
القرويين نحو المدن التي شهدت بدورها نمو أحياء السكن الغير اللائق مع ما يطرح ذلك
من مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية (التشغيل، الجريمة، والاحتجاجات الشعبية...)،
ولمواجهة هذه التحديات، يبدو أن تقريب المجتمع من نفسه هو الدواء الملائم لمواجهة
انخفاض فعالية الدولة، وهذا لن يأتي بطبيعة الحال إلا بتطبيق لامركزيىة إدارية
تمكن المواطنين من تدبير شؤونهم عن طريق ممثلين منتخبون بشكل ديمقراطي، وتعتبر
الجهة أهم وحدة ترابية من بين الوحدات الترابية اللامركزية الأخرى.
آفاق تدبير
التنمية المجالية في إطار مشروع الجهوية المتقدمة:
إن التطور الذي يعرفه المغرب على مختلف الأصعدة
والمستويات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ومع تطور عدد السكان وتنوع حاجياتهم
وبالنظر لاستفحال الفوارق التنموية بين جهات متعددة داخل الدولة الواحدة، أصبح من
الضروري إعادة النظر في الجهوية وإعطائها نفسا جديدا والعمل على تفعيلها للنهوض
بالاقتصاد الوطني وتحقيق التوازن بين الجهات المختلفة وجعل الجهة فعلا قاطرة
للتنمية المحلية. فرغم تمتع المجالس الجهوية باختصاصات واسعة في تدبير الشأن العام
الجهوي، لكن يبقى تفعيلها حبيس، ولا يتم إخراجها إلى حيز الوجود.
وتقتضي الجهوية
المتقدمة أولا تحقيق ديمقراطية محلية وجهوية بإعطاء كل مؤسسة دورها في التسيير
وذلك بالانتقال من المركز إلى المحور مع التأكيد على ضرورة تكامل جهود الفاعلين
الجهويين في وقت أصبحت تتداعى فيه مركزية القرارات ومركزية التسيير والتدبير
وتتأكد فيه آليات التدبير المحلي.
التنمية
المجالية على المستوى المحلي:
فبعد الحديث عن أهمية التنمية المجالية وطرق تدبيرها، من
أهمية بمكان أن نعرّج حول مفهوم التنمية المحلية والذي يعد مجموعة من العمليات
التي يمكن من خلالها تضافر الجهود المحلية الذاتية والجهود الحكومية لتحسين نوعية
الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحضارية للمجتمعات المحلية وإدماجها في
منظومة التنمية الوطنية الشاملة، ولكي تشارك مشاركة فعالة في التقدم على المستوى
الوطني.
إن الشراكة في تصور وبلورة وإنجاز المشاريع المحلية وسيلة
من وسائل ضمان إنجاز مشاريع مستدامة في أفق الرقي الاجتماعي والاقتصادي، لأن
المشاريع القائمة على التشارك من المفروض أن تعكس أولويات ومصالح المجتمع المحلي
وتدمج في حسابها مختلف العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتاريخية
والبيئية الملائمة.
وبالتالي فكلما كانت الشراكة فعلية وفعالة كلما كانت فرص نجاح التنمية المحلية
كبيرة، والشراكة ضرورية بين كافة الأطراف المتدخلة في حقوق التنمية المختلفة سواء
كانت من القطاعين العام أو الخاص أو مكونات المجتمع المدني كالجمعيات وغيرها ولعل
هذا ما حذا بالدولة والجماعات الترابية بأصنافها الثلاثة إلى إبرام العديد من الاتفاقيات لإنجاز أعمال وأنشطة ومشاريع تهم القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وغيرها.
التنمية
المجالية على المستوى الجهوي:
اعتبارا لوجود العجز الذي تعاني منه جل الجهات من حيث
التنمية البشرية، فإن مشروع الجهوية يقترح تبني مخطط ينهض بالمستوى الاجتماعي
للجهات. ومن بين الرهانات التي يرجى من الجهوية تحقيقها هي التنمية المجالية تراعي
فيها حقوق الساكنة والرقي بالمجال كدعامة أساسية لنموه. فإن من أهم النقاط التي
ستعمل عليها الجهوية انطلاقا مما حدده المجلس الاستشاري للجهوية هو تحديد صندوق
للتأهيل الاجتماعي للجهات، حيث يهدف إلى الاسراع بسد مظاهر العجز الكبرى في
الجوانب المرتبطة مباشرة بالتنمية البشرية، والتي تتقاطع بشكل واسع مع مجالات
اختصاص الجهات.
كما أن الجهة من منظورها التنموي ستعمل على تحسين
الموارد المحلية وتنميتها من حيث التحصيل والتصرف وذلك بتكوين المجالس المنتخبة،
لا سيما الجماعية، ملزمة بتحصيل مواردها الذاتية المخولة لها وفق التشريع الحالي
والتصرف بها على الوجه الأمثل، مما سيرفع من الحجم الاجمالي للموارد العائدة لسائر
الجماعات الترابية.
هذا، ويعتبر مشروع الجهوية المتقدمة نمط تصور المجتمع
للكيفية التي يراها التدبير وتسيير شؤونه والنهوض بالتنمية المجالية، ومما لا شك فيه
أن المغرب أصبح مقتنعا بضرورة السير في تفعيل هذا الورش الكبير، الذي يعطي للجهة
الآليات والوسائل التي تساعدها على انعاش وتنمية مجالها.
رغم كل هذا، يبقى تفعيل مشروع الجهوية بالمغرب يتخلله
مجموعة من العوائق التي تقف عائقا وتحد من مدى فعالية الجهوية، إلا أنه بعد نشر
تقرير اللجنة الاستشارية للجهوية تبين أن المشروع المقترح يندرج ضمن الفلسفة
التقليدية لتدبير التراب، ثم بعد ذلك جاء دستور 2011 ليؤكد هذه الأطروحة، فبالرغم
من تنصيصه على مجموعة من المبادئ الضرورية لجهوية متقدمة، كمبدأ التدبير الحر أو
التفريغ، فإنه في المقابل يختصر دورها في المساهمة، إلى جانب الجماعات الترابية
الأخرى.
لا يمكن فهم الخطاب الرسمي حول الجهوية إلا بربطه
بالسياق والحيثيات نفسها. فالحديث عن جهوية موسعة جعل الكثير من المهتمين بهذا
الشأن يذهبون إلى أن المغرب قد ينحو منحى دولة الجهات المستقلة كإسبانيا مثلا، حيث
خولت صلاحيات مهمة للجماعات الترابية خاصة منها الجهات. إلا أن التقرير الذي أعدته اللجنة الاستشارية
حول ما تضمنه الدستور الجديد بخصوص الجماعات الترابية لم يكن في مستوى انتظارات من
استهوتهم دولة الجهات. فالدستور لم يحمل في طياته جهوية متقدمة بل اكتفى بتأهيل الجهات
إلى مستوى الجماعات الحضرية والقروية بالتنصيص على انتخاب مجالسها بالاقتراع العام
المباشر وتخويل رؤسائها سلطة تنفيذ قرارات المجالس[28].
IV.
المقاربة الترابية دعامة التنمية المجالية:
يواجه المغرب كسائل دول العالم تحديات في
كل الميادين الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وغيرها. وأمام هذه التحديات نهج المغرب مجموعة
من المقاربات الاستراتيجية في ميدان التنمية، ومن بينها المقاربة الترابية التي
تأخذ بعين الاعتبار المجال كونه أحد العوامل الرئيسية المتحكمة في التنمية المجالية.
مما لا شك فيه أن مسألة المقاربة
الترابية تعتريها نواقص عدة، وهي نتاج لتراكمات تاريخية وأسباب مرتبطة بالمعايير
والتوجهات المعتمدة في بناء خريطة تنموية فعالة وملائمة للتنمية المجالية، وهو
الأمر الذي يقتضي التعجيل بتحديد الرهانات الكبرى للتنمية وتطوير أساليب التدبير
الترابي وتوطيد البناء الديمقراطي على أسس متينة. فتحقيق رهانات التنمية
الاقتصادية والاجتماعية وتقوية اللامركزية والديمقراطية المحلية يرتهن بتفعيل دور
المؤسسة الجهوية باعتبار أن الجهة هي الإطار الملائم لتعبئة الفاعلين في إطار
مشروع جهوي للتنمية.
لا يتناغم الحديث عن التنمية عموما إلا
إذا كان الانسان برفقتها، بل يجب أن يكون محورها الذي حوله تدور، والجهة التي
إليها يكون العطاء. فالعنصر البشري أداة وغاية للتنمية باعتبار التنمية البشرية
عصب التطور الاقتصادي ونموه وسيلة لضمان الحياة المستقرة والآمنة للسكان، متمركزة
على تنويع وتطوير الخيارات المتاحة أمامه حسب الخصوصيات ونمط العيش السائد في
جهته.
ولا يمكن أن تتطور التنمية البشرية إلا
بتطور المجال وتوعية السكان المستهدفين بأهميته كعنصر فعال داخل المنظومة. وهذا لا
يتأتى إلا بانخراط كلي للمجتمع المدني وتفاعله مع مجموعة من العوامل والمعطيات
المتعددة والمتنوعة بغية الوصول إلى تحقيق تأثيرات وتشكيلات معينة في حياة الإنسان
وفي سياقه المجتمعي، وهذا جزء من حلقات السلسلة المترابطة التي تجمع وتوصل جيلا
بجيل عبر التاريخ وموقعا بموقع جغرافيا
وبيئيا على هذا التراب.
فرغم التوجه المسجل نحو تقليص التفاوتات
الجهوية، إلا أنها تظل حاضرة بقوة وآثارها واضحة. كما تجدر الإشارة إلى حدة
التفاوتات التنموية وفيما يتعلق بالولوج إلى الخدمات الأساسية داخل كل جهة وبين
المناطق الحضرية والمناطق القروية، وكذلك بين المناطق الجبلية ومناطق السهول،
والمناطق الداخلية والمناطق الساحلية. كما تتميز التفاوتات المجالية بطابعها
التراكمي مما يجعل كل تأخر في معالجتها جد مكلف مع مرور الوقت.
أصبحت قوة المجالات الترابية وتنافسها
ترتبط أكثر من أي وقت مضى، بمدى قدرة الفاعلين المحليين في مجال التنمية على تعبئة
الموارد المحلية لخلق خصوصية جهوية وإقليمية كفيلة بضمان نجاعة المشاريع التنموية
واستدامتها. وصارت الموارد المحلية اليوم فرصا حقيقية للتنمية حيث تتيح مواجهة
مخاطر الاملاءات التنموية الفوقية التي أثبتت قصورها، والتوجه نحو استثمار البعد
المحلي في تصوير شمولي للتنمية، على اعتبار البعد المجالي ركيزة أساسية للنموذج
التنموي الجديد الذي دعت إليه أعلى سلطة، من أجل خلق دينامية اقتصادية لاستثمار
الامكانيات التي تتوفر لدى جهة أو إقليم، وصولا إلى العدالة الاجتماعية والمجالية.
فأمام تدني حصيلة التنمية التي اتبعها
المغرب منذ الاستقلال، وما يستدعي ذلك من التغير الجذري للمنطلقات والاستراتيجيات
التنموية، بدأت تلوح في الأفق ظروف محلية وخارجية، قد تجعل البعد الترابي مدخلا
ممكنا للتنمية.
فالإقبال التدريجي على توظيف مفهوم
التنمية الترابية في كثير من المشاريع التي تسعى إلى تحقيق التنمية المستدامة
والمندمجة، حيث بدا النزوع قويا إلى إدماج مختلف الابعاد المجالية والاجتماعية
والبيئية. على نقيض المقاربة القطاعية التي كانت تنظر سلفا إلى المجال على أنه
إطار جغرافي محايد. فقد تبين للجميع أن نمط التنمية الذي ظل متبعا إلى الآن غير
قابل للاستدامة، وأن الوقت حان لتغيير أنماط واستراتيجيات وأهداف التنمية
أصبحت مسألة العودة إلى ما هو محلي
كإقرار بأهمية مقاربة لإشكالية التنمية، أمرا يطرح نفسه بإلحاح. إذ أصبح من ينظر
من قبل الأكاديميين وباقي مختلف الفاعليين المكلفين بتهيئة التراب إلى الخصوصيات
المحلية للمجالات السوسيوترابية على أنها فرص، تتيح مواجهة مخاطر العولمة المهددة
بمحو الهوية المحلية، كما يمكن تعبئة الموارد والمؤهلات الذاتية للحيازات الترابية
من ضمان الاندماج الإيجابي في الأنساق الشمولية.
فالمقاربة الترابية إذن هي تصور يهدف إلى
إحداث الإلتقائية في التدخلات من أجل مواجهة تحديات التنمية، ويتم ذلك فوق حيز
ترابي محدد عن طريق مقاربة أفقية تقوم على تنسيق أهداف وتدخلات الفاعلين، وعلى
التعبئة المتكاملة والشاملة لموارد هذا الحيز الترابي.
المشروع الترابي يعتبر عمل محدد في
الزمان والمجال، يتولد من خلال فكرة في سياق خاص من أجل بلوغ هدف معين. ويفترض
تحسين الوضعية الحالية ويرتقب المأمولة. وهو مسلسل دينامي يتأسس على مقاربة
تشاركية توحد بين الفاعلين بغية تثمين الامكانيات من أجل الاستجابة للرهانات
الترابية. ومن هنا، فالمقاربة الترابية ليست بتمرين ذكائي، وممارستها لا يكون لها
معنى إلا في إطار ينبني على المشروع الترابي الذي يحدده هدف جماعي للفاعلين
بالنسبة لمستقبل ترابهم.
فالمشروع الترابي ينبني على أبعاد رئيسية
يجب أن تتوفر: نظرة مستقبلية مشتركة بين الفاعلين، وإدارة جماعية لتحقيقها، ونظام
قيم مشترك، ومحاور استراتيجية للتنمية تتفرع عمليا إلى برامج وعمليات متفاوض
ومتعاقد عليها.
إن المشروع الترابي أداة لبناء نموذج
محلي، لهذا فمن الضروري الإحاطة بمحتواه ووظيفته، وكيفية بنائه، وكذا العلاقة
الممكنة بين مخططات التنمية المحلية، كما يمكن في هذا الإطار إجراء مقاربة نظرية
متعددة المشارب للمفاهيم ذات العلاقة بالمشروع الترابي، من قبل الاستشراف الترابي
والتشخيص الترابي والتشخيص الاستراتيجي.
فمن المفروض أن تعكس المشاريع الترابية
المصاغة، الاستراتيجية العمومية للتنمية بارتباط تام مع تراتبية بعدها المجالي وما
سيتبعها من طلبات، ولتحقيق هذا المشروع الترابي، لابد من اعتماد إجراءات تنظيمية
ممهدة، من قبل وضع شراكات محلية قادرة على وضع تشخيص ترابي مشترك، يساعد على صياغة
مشروع مندمج يتبناه الفاعلون.
هذا، ويعد المشروع الترابي تصورا جديد
لتجاوز التدخلات القطاعية وبلورة نظرة شمولية تسمح بتحقيق تنمية مستدامة، وذلك
بشراكة ودعم من لدن كل الفاعلين والمهتمين بالمسألة التنموية. والمشروع الترابي هو
عملية تنموية ونسق يتميز بست خاصيات:
-
نهج جديد من تخطيط التنمية، يتجاوز النظرة القطاعية والمركزية
للمسألة التنموية ويتبنى المقاربة الشمولية الواقعية.
-
يقوم على إشراك الفاعلين المعنيين بالمسألة التنموية.
-
ينبثق من التعبئة الكاملة والمتكاملة للموارد الخاصة
المالية وغير المادية برقعة ترابية معينة.
-
يتأسس على مقاربة أفقية للتنمية تقتضي تنسيق أهداف وتدخلات
الفاعلين كل حسب موقعه ومسؤولياته وقطاعه، وتمكن هذه المقاربة من ترشيد الموارد
وتآزر الأعمال والجهود ويتم كل ذلك في إطار تعاقد يمكن أن يتخذ صيغة ميثاق ترابي.
-
مشروع شمولي يعبئ كل مكونات الحقل التنموي، الثقافية
والاجتماعية والبيئية.
-
مشروع استراتيجي مستقبلي يندرج في إطار الديمومة، توجهه
أهداف تحقق على المدى البعيد، وبرامج تنجز على المدى المتوسط، وعمليات تنفذ على
المستوى القريب.
فأهمية المقاربة الترابية باعتبارها مقاربة شمولية، تأخذ
بعين الاعتبار كل الأبعاد والمكونات المجالية، وتجعل القاعدة أو الحيز الترابي
منطلقا أساسيا. باعتباره ليس محور للتنمية فحسب، بل رهانا، ومنتوجا أساسيا أيضا.
فالتنمية لا يمكن أن تتحقق إلا على المستوى المجالي المتجانس، أي على مستوى
الوحدات السوسيوترابية التي يمكن تعبئتها، وإشراكها مشاركة فعالة في خلق وإنجاز أي
عمل تنموي متميز.
فالتنمية الترابية هي أداة استراتيجية
تهدف من خلال آليات التشارك إلى:
-
توفير المحيط الملائم للمبادرة المحلية قصد تقوية
القدرات الفردية والاجتماعية في الإبداع والإنتاج.
-
التكيف مع المستجدات وتحقيق التأهيل الذاتي كشرط أساسي
للبقاء والاستدامة.
-
تطوير بدائل للتنمية، قوامها تنويع الموارد وابتكار
أشكال جديدة للتنظيم والإنتاج، تدمج الاهتمامات الاجتماعية والثقافية والبيئية في
البعد الاقتصادي للتنمية. وتشكل عناصر التصور في نهاية الأمر ما يسمح ببناء
المشروع الترابي.
ولا يمكن فهم واستيعاب محتوى بناء المشروع الترابي الذي
نسعى إليه، دون الإحاطة والتعريف بالعناصر الأساسية المكونة له، أو المحيطة
والمرتبطة بمنهجية بنائه، ويتعلق الأمر بالمفاهيم والمقاربات والإشكاليات التالية:
الحيز الترابي والموارد الترابية والاستشراف الترابي والمشروع الترابي وقد سبق
الإشارة لذلك.
§
الحيز الترابي: كلمة لها عدة تعاريف، فهناك من عرفه على أنه مجال
مجتمعي ومتملك وهناك من اعتبره قاعدة لتاريخ وثقافة وذاكرة مشتركة، للتعاون
والصراع بين المجموعة البشرية التي استوطنته، إذن يمكن أن نعتبره مجالا جغرافيا
متملكا ومعاشا، تتهيكل شخصيته كليا أو جزئيا حول أربعة أبعاد أساسية وهي البعد المادي
والبعد الاجتماعي والثقافي ونظام الانتاج ونسق للحكامة المحلية.
§
الموارد الترابية: مفهوم حديث، أصبح متداولا بكثرة لدى العديد من
الباحثين، والمختصين في مختلف التخصصات العلمية من اقتصاد وجغرافيا وتهيئة وإعداد
التراب. فهو يتجاوز المفهوم التقليدي للموارد المتداول منذ فترة طويلة، باعتبارها
تلك المكونات لمادية التي تزخر بها منطقة معينة أو جهة أو دولة، من موارد أولية
طاقية وغذائية، وليمتد للعناصر غير المادية من عمق تاريخي، وثقافة محلية، وتراث
خاص وخصوصي، ومعارف وخبرات، وقدرات على التجديد والابتكار. ويعتبر "لحسن جنان
(2008)" أن: الموارد الترابية هي تعبئة لكل مقومات مجال معين، مادية ومعنوية،
بحيث عندما نضع مقومات المجال في إطار نسق، وفي إطار التعبئة لهذه الموارد، تتولد
القيمة المضافة.
§
الاستشراف الترابي: يهتم الاستشراف الترابي بتوقع الآفاق المستقبلية،
المأمولة والممكنة بالنسبة لحيز ترابي معين، على أساس المعرفة المعمقة بإمكاناته
وإكراهاته الراهنة، وتحليل النزاعات العامة داخله وفي محيطة على مختلف مستوياته
الترابية، وذلك بغية استجلاء الرهانات التي تطرحها تنميته
يرتكز الاستشراف الترابي على المبدأ الجوهري القاضي بكون
مستقبل الحيز الترابي ليس قدرا محتوما، بل يجب بناؤه والتهيؤ له باستمرار، وبما أن
هذا المستقبل يهم كل الفاعلين، فإن بناء رؤية مستقبلية للحيز الترابي، وبلورة
الاستراتيجيات المترتبة عن ذلك هو بالضرورة عمل جماعي. وهذا التصور يقتضي إقامة
إطار يمكن فيه للفاعلين التفكير جماعة، ومن تبادل وجهات النظر حول الامكانات،
والمشاكل، والحاجيات، والاكراهات، والرهانات المتعلقة بحيزهم الترابي، ومن بلورة
فرضيات المستقبل، وعندما يتصرفون على هذا النحو، يستطيعون ليس فحسب إبراز رؤية
متقاسمة وتمثل جماعي لمستقبل ترابهم، بل كذلك تقوية روح الانتماء الترابي كعامل
للتعبئة. وامتلاك وسائل استقبال الثغرات، والتحكم فيها قبل أن تفرض عليهم هذه
التحولات منطلقها الخاص.
§
الاستشراف الاستراتيجي: العمل دون هدف لا معنى له، والاستباق يولّد العمل،
هكذا إذن يقترن الاستشراف بالاستراتيجية، في الغالب، اقترانا لا ينفصم: ومنه عبارة
الاستشراف الاستراتيجي. إن مفاهيم الاستشراف والاستراتيجية والتخطيط هي في
الممارسة شديدة الترابط، فكل واحد منها يستدعي الآخرين وتمازجهما: فالاستشراف
استباق لتنوير الفعل، يتعلق بعدم الانضباط الفكري حسب بيار ماسي، وبُعد النظر
وسعته وعمقه حسب غاستون بارجي، ولكن كذلك بالنظر بوجه آخر (تجديد) ومعا (تملك).
فالنظرة الاجمالية والارادية وطويلة المدى هي ضرورة لمنح معنى للعمل، أما التخطيط
يتمثل في تصور مستقبل منشود وكذلك في تصور الوسائل الفعلية لإدراكه، ثم
الاستراتيجية هي مجموعة قواعد السيرة التي لفاعلٍ فتمكنه من بلوغ أهدافه ومشروعه.
الاستشراف الاستراتيجي هو مفهوم التسعينات حيث وضع
استباق الاستشراف في خدمة العمل الاستراتيجي ومشروع المؤسسة. ليس الاستشراف
بالنسبة إلى منظمة ما، عمل، إحسان، ولكنه تفكير يرمي إلى تنوير الفعل وخاصة ذلك
الذي يكتسي صبغة استراتيجية،
وسنقف عند هذا المفهوم لإبراز مدى أهميته في مواكبة المشروع الترابي.
§
التخطيط الاستراتيجي: يعتبر بالأساس وسيلة إدارية، وكأي من آليات الإدارة
فهو يستخدم لغرض معين، وهو جهد منتظم لاتحاد قرارات أساسية والقيام بأعمال تشكل
وتوجه، مع التركيز على المستقبل. والعملية الاستراتيجية تضمن الاعداد لأفضل طريقة
للاستجابة إلى ظروف المحيط، سواء كانت تلك الظروف معروفة مسبقا أم لا. أما العملية
التخطيطية لكونها تتضمن غايات إدارية، بمعنى اختيار مستقبل مرغوب فيه ووضع اسلوب
لتحقيق الغايات.
وعموما، فإن عملية التخطيط الاستراتيجي معقدة وتتضمن
تحديات قد يكون من الصعب السيطرة عليها عمليا. ومع كونها تختص باتخاذ قرارات
أساسية والقيام بتنفيذها إلا أنها ليست محاولة لاتخاذ قرارات مستقبلية. ويتضمن
التخطيط الاستراتيجي توقع البيئة في المستقبل لكن القرارات تتخذ في الحاضر، لهذا
يجب على المقرر الاحتفاظ بموقعه في ظل التغيرات على ممر الوقت.
§
التشخيص: عملية التشخيص ضرورة لاتخاذ القرارات الاستراتيجية ولبناء المشاريع، وهي
كلمة يونانية مشتقة من كلمة ‘diagnosis’ وتعني المعرفة. في أصلها تستعمل في ميدان
الطب وهي تعني "تحديد وتعيين المرض من خلال أعراضه" وبصفة عامة يمكن
القول أن التشخيص هو حكم مصدر في وضعية ما، خلال حالة ما، حاليا مصطلح التشخيص
أصبح يستعمل في العديد من الميادين خاصة في ميدان إعداد التراب والتدبير
والتسيير...، وتكمن أهمية التشخيص من خلال الحصول صورة واضحة ومتكاملة على جوانب
القوة والضعف لتراب معين والفرص والتهديدات في بيئتها التي تؤثر على حاضرها
ومستقبلها ومحاولة إيجاد بعض الحلول الممكنة والبديلة التي من شأنها المساهمة في
تجاوز الصعاب والمخاطر المحتملة واستغلال الفرص.
§
التشخيص الترابي: يعتبر التشخيص الترابي أداة لتحليل وفهم البنيات والأنساق
الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية التي تتحكم في تنظيم وتدبير المجال، انطلاقا من
تحديد الاكراهات وسيناريوهات التطور المحتمل لهذا الاخير، ومعرفة الضوابط المجالية
في إطار كل فعل تنموي.
المشروع
الترابي: المقاربة من الأسفل
لا شك أن المشروع الترابي يعد إحدى المقاربات الترابية
الحديثة لقضايا التنمية، كما أن استحضار هذا المفهوم، يقودنا مباشرة إلى تناول مفهوم
التراب، باعتباره إطار مجالي. فهو يعني على الأقل ثلاثة مضامين أساسية:
-
المجالات الادارية المتراكمة؛
-
الامتداد الأرضي؛ يصبح التراب مجالا متملكا، وحاملا للقيم
والرموز المشتركة لمجموعة - بشرية
أو مجتمع ما. المجال
الاجتماعي المتملك؛
أكيد أن المقاربة الترابية لا تنبني على ما هو عمودي،
وبمقابل ذلك فإنها تتسع لكل التصورات الأفقية؛ فهي ليست تجميعا لتدخلات قطاعية، أو
عملية تستهدف الرفع من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية أو المتعلقة بالبنية
التحتية، بحيث لا يجب التطرق إليها بمثابة "محدد خطي يتأثر بالعوامل الداخلية
والخارجية في اتجاه التطور نحو الحداثة، بل باعتبارها عملية تعكس حصيلة نتائج التدخلات
المتراكمة لمختلف الفاعلين الاجتماعيين، الذين تمر قصديتهم من خلال مصفاة تمثلاتهم
حول موارد التراب الذي يتصرفون فيه.
شكل رقم 1: عناصر المشروع الترابي والتفاعلات القائمة
فيما بينها
المشروع
الترابي أداة لخدمة التنمية الترابية والخصوصية الترابية:
كل مشروع ترابي يقتضي العمل على ترجمة الخصوصيات التي
يتميز بها كل مجال ترابي في قالب تنموي يأخذ بعين الاعتبار العلاقات المتشعبة بين
المجال والفاعلين والسلطة، حيث إن كل مشروع ما هو إلا تعبير عن الاختلافات القائمة
بين مختلف المجالات الترابية. لذا لا يمكن "تبني سياسة تنموية واحدة داخل نفس
البلد لا تراعي الخصوصيات الثقافية لكل منطقة وإمكانياتها المادية بشرية كانت أم
طبيعية، ومن تم تجاهل السكان المحليين لها، في حين أنه لا يمكن تحقيق أي أهداف
تنموية بدون مشاركة السكان الذين من أجلهم وضعت خطط النماء هاته.
شكل
رقم 2: محددات خصوصيات المجالات الترابية
إن الاهتمام بالخصوصية الترابية قد يؤدي إلى خلق إحساس جماعي بالانتماء
لمجال ترابي معين وبالتالي مساعدة الفاعلين على تملك التراب، والدفع بهم إلى
الانخراط في مسلسل التنمية الترابية.
فالمشروع الترابي كتطبيق فعلي استراتيجي، يقوم على رغبة
سياسية قوية، وعلى شراكة اجتماعية حقيقية، وهي الوحيدة القادرة على منحه المشروعية
السياسية والادارية على الرغم من قضايا السلطة والصراعات السياسية والمؤسساتية،
فالمسؤولية مشتركة، وهذا يتطلب نهج جديد ووسيلة ناجعة لتشجيع المبادرة المحلية من
خلال مشاركة الجهات الفاعلة الاجتماعية والمهنية والمواطنين وتعزيز التعاون بين
البلديات وتنظيم العلاقات بين الاقاليم. وهكذا يمكن دمج السياسات القطاعية
المختلفة في تصور شمولي ومتماسك واستراتيجي من خلال ثلاث زوايا:
التشخيص
الاستراتيجي وأساليب التحليل:
هو عملية ناتجة عن تحليل عدة عناصر لتحديد مشكلة ما أو
دراسة حالية لأجل اقتناص الفرص المتاحة وترويض تهديد معين لصالح المؤسسة واستغلال
نقاط القوة فيها وتحسين نقاط الضعف الموجودة بها، عرفه ‘Olivier’ أنه عبارة
عن مرحلة ضرورية في تعريف وصياغة الاستراتيجية ويعمل لسيرورة القرار، ويعالج العمل
لأجل النظر في الموارد والمزايا التنافسية ووضعية القبول في هذا السوق. ويرى بأنه
ضروري لأجل استعمال تحليل نقاط القوة والضعف الحالية والمستقبلية للمنافسة. وعرفه ‘Johnson et Scholes’ بأنه مجموعة من الوسائل التي تستخدمها الإدارة في تحديد
مدى التغير في البيئة الخارجية وتحديد الميزة التنافسية أو الكفاءة المميزة
للمنطقة في السيطرة على بيئتها التنظيمية بحيث يسهم في زيادة قدرة الإدارة العليا على
تحديد أهدافها ومركزها الاستراتيجي. وعرفه ‘Thonson’على أنه فهم المنظمة لبيئتها الداخلية والخارجية وتحديد
أفضل سبل الاستجابة للتغيرات السريعة، واستغلالها باتجاه تحقيق أفضل الأداة.
يعد التشخيص الاستراتيجي مهما، حيث نجده يقف إلى جانب
المشروع الترابي حتى نهايته. لهذا دعت الضرورة للوقوف عند بعض أساليب التحليل في
التشخيص الاستراتيجي:
-
تحليل SWOT (AFOM) : الذي يعد تقنية من التقنيات الناجحة في التشخيص
والتخطيط الاستراتيجي للمشاريع من خلال تحليل العوامل الداخلية والخارجية، والتعرف
عن نقط الضعف ونقط القوة من جهة، وعلى التهديدات والفرص المتاحة من جهة أخرى.
شكل رقم 3: التشخيص الاستراتيجي
شكل رقم 3: التشخيص الاستراتيجي
جدول رقم2: تحليل الوضعية من خلال التشخيص الاستراتيجي SWOT
-
تحليل الفجوة: إن الشعور بوجود فجوة يدفع إلى البحث عن استراتيجيات
جديدة تساعدنا على تحقيق الغايات المنشودة من أجل تقليصها، فعملية البحث عن
العوامل المساعدة تتوجه إلى تحليل البيئة الداخلية والخارجية، مما يساعدنا على
اتخاذ القرار حول اختيار واحدة أو مجموعة من التوجهات التالية:
زيادة الطموح؛
إمكانية التريث في زج الطاقات لتحقيق الطموح؛
السعي لتوسع هيمنتها البيئية وبوسائل الطموح؛
يتبين أن اسلوب تحليل الفجوة له دور أساسي في توفير
المعلومات المساعدة على اتخاذ القرار الاستراتيجي المؤدي لردمها، ويمكن تلخيص هذا
الدور في الخطاطة التالي:
شكل
رقم4: دور أسلوب تحليل الفجوة في تنمية البدائل الاستراتيجية واتخاذ القرار
بناء
المشروع الترابي:
فبناء المشروع الترابي في حد ذاته يتعلق بالدرجة الأولى
بمدى دقة التشخيص الترابي لحيز ترابي، حيث يشكل التشخيص الترابي طريقة لتحليل
الحيز الترابي. وإبراز شخصيته الخاصة التي تميزه عن باقي المجالات، من خلال تقسيم
عناصر القوة ومواطن الضعف فيه وإبراز الفرص المتاحة والمخاطر المحدقة بتطوره
(نموذج SWOT)، باعتباره نموذجا نظريا يفضي إلى التوجهات
الأتية وقد سبق الإشارة إليه:
شكل رقم5: نموذج AFOM
ويتيح كذلك رصد الفاعلين، واستجلاء رهاناتهم الاقتصادية
والاجتماعية والبيئية..، واستراتيجياتهم وممارساتهم. مما يسمح بإخراج البحث من
التشخيص إلى المحاور الاستراتيجية للتنمية. وتصور واضح لتوجهات المشروع الترابي.
يندرج التشخيص الترابي كذلك في السياق العام لمحاولة
تغيير أسلوب ووثيرة التنمية الحالية بأسلوب ووثيرة أكثر نجاعة. كما أن ضغط
التحديات والرهانات الجديدة يفرض التكيف والتأهيل الذي يقوم على اختيارات جديدة
قوامها: التعبئة، والتحكيم، والتوفيق بين الفاعلين.
يسمح التشخيص الترابي كذلك بإنتاج المعلومات الموطّنة
ذات الخصوصية، القادرة على إعادة موقَعة المجال الترابي ومنحه خصوصية وهويته
والرفع من تنافسيته، كما أن التشخيص الترابي ليس عملية ميدانية فحسب. لكنه كذلك
مقاربة بيبليوغرافية ووثائقية، لأن مقومات المجال ليست كلها مرئية، بل يقوم على
أبعاد لا مادية والتي تشكل بدورها موردا ترابيا، ويتعين الاهتمام بها بنفس القدرة
الذي نوليه للعناصر المادية.
الاجرأة
الاستراتيجية للمشروع الترابي:
تخضع الاجرأة الاستراتيجية للمشروع الترابي لعملية
لوْلبية تصاعدية، تبدأ بالمبادرة، وتخضع باستمرار لعملية التقييم. فالتنمية
الترابية – كما سبقت الإشارة – هي مفهوم جديد للتنظيم الذي يجب أن يكون عليه حيز
ترابي، في التصور وفي المشروع، من خلال تكتل الفاعلين وتنظيمهم حول الهدف وحول
المشروع، إذ يجب أن نحقق الانتقال من تنمية لأجل مجال ترابي إلى مجال ترابي من أجل
التنمية.
شكل
رقم 6: الاجرأة الاستراتيجية للمشروع الترابي (بناء لولبي)
الشروط
الأساسية لبناء المشروع الترابي:
يقتضي
بناء أي مشروع ترابي توفر خمسة شروط أساسية:
-
القدرة على إحداث تنمية دينامية؛
-
سماح المشروع بتعزيز القدرة للتنافسية للحيز الترابي؛
-
الانخراط الإيجابي للفاعلين المحليين؛
-
التعاقد؛
-
مراعاة أبعاد التنمية المستدامة؛
وتجدر الإشارة في الأخير إلى أن التنمية الترابية. وما
تعنيه من عودة إلى المحلي، انطلاقا من تعبئة الموارد والمقومات الخاصة للمجالات
الترابية، بفاعليها المحليين واستراتيجياتهم. والتي فرضت نفسها ببلادنا كنتيجة
لتحولات داخلية، وكرد فعل ضد إكراهات العولمة
وما فرضه من تحديات، وكأداة للاندماج في الأنساق الشمولية، تبقى مقاربة
صعبة المنال في بلد ديمقراطيته فتية ولامركزية محدودة ومؤسسات هشة، ووحدات ترابية تبدو
غير قادرة على العيش والاستمرارية بمفردها، لكنها ممكنة. ويدخل هذا البحث في إطار
محاولة تجريبية لنموذج التنمية الترابية على أرض الواقع. عبر طرح العناصر والأدوات
والمقاربة المنهجية لتطبيقها في مجال جغرافي يحمل صفات الوحدة السوسيوترابية
المتجانسة والقابلة لحمل المشروع.
التتبع
والتقييم: لوحدة قيادة المشروع الترابي
بما أن منهجية
التنمية الترابية حديثة العهد في المغرب عموما، ومجهولة، فإن تطبيقها سيصطدم لا
محالة بمقاومة ناجمة عن رسوخ الثقافة القطاعية، والغياب شبه التام للاتمركز
المصالح الخارجية للدولة، وضعف ثقافة التعاون بين الفاعلين. ولذلك فإن نجاح
مشروع التنمية الترابية سيبقى مرهونا بنجاعة المنهج الذي سيحكم إنجازه ككل، ويؤطر
تنفيذ كل عملية من العمليات التي يتكون منها. ومن تم، الضرورة الملحة لتنظيم
مواكبة المشروع بالارتكاز على لوحة القيادة.
إشاعة
المشروع الترابي والتعريف به:
ويقتضي ذلك السهر على نشر مخطط العمل في اتجاه المحيط
ومختلف الشركاء، وحيث إن التعبئة والبحث يشكلان ضمانة نجاح أي مشروع ترابي، فسيكون
على حاملي المشروع، وخاصة لجنة القيادة، السهر على سيلان كافة المعلومات المتعلقة
به لتهيئ بذلك الظروف المناسبة لردود الفعل المناسبة لكل مرحلة من المنهجية.
وضع أو
تنفيذ المشروع الترابي:
يمكن تنفيذ المشروع الترابي من خلال بلوغ ثلاث أهداف،
أولها المساهمة في تقوية مسلسل اللاتمركز، وترسيخ دور الجماعات الترابية، وثانيا
خلق دينامية للفاعلين عبر تكوين رأسمال عقلاني، وإرساء تقاليد للتفكير والعمل
الجماعي، الذي يمكن للحيز الترابي من تأمل واستشراف تنميته الخاصة، بالإضافة
لتيسير أنماط العمل التعاقدي، قصد تأمين الاندماج بين السياسات القطاعية. وأخيرا
توفير شروط استدامة هذه الدينامية، بواسطة المحافظة على البنيات والممارسات التي
خلقها المشروع.
ولهذا يتعين على المشروع الترابي أن يركز على جهاز خاص
للدعم والحكامة، بما يعني تشكيل لجنة القيادة تتكلف بوظيفة الاشراف على بناء الحيز
الترابي، والسهر على تنفيذ العمليات المقررة في المشروع، ثم إحداث مركز الموارد
يشتغل تحت المسؤولية المباشرة للجنة القيادة، ويشكل بالنسبة لها أداة عملية،
ويتلخص هدفه في استدامة المنهجية الترابية عبر تنشيط الحيز الترابي. وحين إقامة
المشروع، سيكون على مركز الموارد أن ينظم أشغال اللجنة المتعلقة بكل محور
استراتيجي أو مشروع تم إقراره، وتزفير العناصر الضرورية لترتيب المشاريع، ثم
مواكبة بناء البرنامج، لا سيما تتبع وتقييم وتنفيذ المشروع.
خاتمة:
عرف المجال الترابي المغربي خلال العقود الأخيرة تحولات
متعددة، منها ما أسهم في سيرورة التنمية، ومنها ما ترتب عنه بروز اختلالات مجالية
وسوسيواقتصادية وبيئية. وفي السياق نفسه، لم يستطع التدبير المحلي والجهوي
الكلاسيكي مواكبة التحولات العميقة التي عرفتها المجالات الحضرية والقروية على حد
سواء.
لذا أصبحت الحاجة ملحة لاعتماد مقاربات منسجمة، تعتمد
على تعبئة مختلف الفاعلين المحليين والجهويين قصد إعداد مشاريع ترابية قادرة على
مواجهة التحديات المطروحة، وكذا استشراف المستقبل، مع استغلال كل الطاقات
والإمكانات المتاحة، والأهم جعل الساكنة المحلية في صلب عمليات التخطيط وصنع
القرار.
وفي هذا السياق، سنحاول في نهاية هذا العمل، طرح بعض
الأسئلة من قبيل: هل يمكن بناء المشروع الترابي دون الأخذ بعين الاعتبار الغنى
والتنوع المحلي؟ وهل يمكن تحقيق التنمية الترابية دون استحضار ما تزخر به المنطقة المراد
تنزيل عليها المشروع من موارد ترابية وطبيعية بشرية؟ وهل هناك بديل للتنمية؟
-------------------------------------------------------------------------------------------
1)
ادريس جردان- إدماج بعد المشاركة في التنمية
التربية بالمغرب: بين الفعالية والشرعية" – مجلة المغربية للسياسات العمومية
الحوار بين الجماعة والفاعلين REMAPD.
2)
الأكحل المختار – 1996 – "الاسس النظرية
لتحديد المجال المحلي وتنميته" – الحوليات المغربية للاقتصاد – العدد 16.
3)
جمال خلوق – 2009 – "التدبير الترابي
بالمغرب: واقع الحال ومطلب التنمية" – تقديم الدكتور سعيذ جفري استاذ بجامعة
الحسن الأول – سطات.
4)
جواد أبو زيد ومنير الصادكي – 2015- " المشروع الترابي آلية لتثمين الموارد
المحلية وتحقيق التنمية الترابية حالة منطقة جرسيف" - أشغال الدورة الخامسة
لمنتدى التنمية والثقافة لاغزران – تنسيق: محمد البقصي ومحمد الزرهوني – تقديم:
محمد بوغلام.
5)
جواد عبيبي – "مقال: ثلاثة عوامل تؤجل
تنزيل الجهوية الموسعة في المغرب" – باحث في القانون الدستوري والعلوم
السياسية.
6)
حسن الكتمور وحافظ الشرك وعبد العزيز أيت بو-
2015- "المقاربة الترابية لاعداد وتنمية الارياف الجبلية بالمغرب" –
أشغال الدورة الخامسة لمنتدى التنمية والثقافة لاغزران – تنسيق: محمد البقصي ومحمد
الزرهوني – تقديم: محمد بوغلام.
7)
حسن كتمور – 2015 – "المشروع الترابي
والمقاربة التشاركية: منهجية عمل مخطط التنمية الجماعي" - أشغال الدورة الخامسة لمنتدى التنمية
والثقافة لاغزران – تنسيق: محمد البقصي ومحمد الزرهوني – تقديم: محمد بوغلام.
8)
رحالي حجيلة وبوخالفة رفيقة - "التنمية
من مفهوم تنمية اقتصادية إلى مفهوم تنمية بشر".
9)
رشيد لبكر – "إعداد التراب الوطني ورهان
التنمية الجهوية".
10)
سعيد كمتي
- 2015 – تراب المشروع والمشروع الترابي أي مشروع لأي تراب" - أشغال
الدورة الخامسة لمنتدى التنمية والثقافة لاغزران – تنسيق: محمد البقصي ومحمد
الزرهوني – تقديم: محمد بوغلام.
11)
عبد الحق بوتاتة والعايب عبد الهادي – 2016 –
"دينامية تفعيل دور الجماعات المحلية في تحقيق التنمية الاقتصادية المحلية
(دراسة مشروع المخطط الخماسي الثاني 2010 – 2014) – نيل الماستر – كلية الحقوق
والعلوم السياسية – قسم العلوم السياسية جامعة امحمد بوقرة بومرداس.
12)
عبد الحكيم بن عاشور – 2014- "الكشروع
الترابي لكتلة زرهون ومساهمة نظم المعلومات الجغرافية في بنائه: من أجل قطب
لاقتصاد التراث" – لنيل الدكتوراه في الجغرافيا – كلية الاداب والعلوم
الانسانية سايس.
13)
عبد الناصر حزى – "التشخيص الاستراتيجي –
بحث في مقياس استراتيجية المؤسسة والمنافسة المقرر"- كلية العلوم الاقتصادية
وعلوم التسيير – جامعة سعد دحلب – الجزائر.
14)
عصام بن الفيلالي كمشرف – 2010 –
"التخطيط الاستراتيجي للدول" – جامعة الملك عبد العزيز – مركز الدراسات
الاستراتيجية – العدد 29.
15)
فيصل شاكر – "الجهوية المتقدمة أية أفاق
في تحقيق التنمية المجالية" – نيل الاجازة – جامعة القاضي عياض كلية العلوم
القانونية والاقتصادية والاجتماعية – مراكش.
16)
لحسن جنان – 2008- محاضرات في إطار تكوين
ماستر: التراث والمجال والتنمية، ظهر المهراز- فاس.
17)
محسن إدالي ويحيى الخالقي ومحمد الغاشي –
2015 – "المشروع الترابي وجدلية التنظير والممارسة (مقاربة
سوسيوجغرافية-ثقافية-انتخابية) - أشغال الدورة الخامسة لمنتدى التنمية والثقافة
لاغزران – تنسيق: محمد البقصي ومحمد الزرهوني – تقديم: محمد بوغلام.
18)
محمد المولودي ومحمد خنشان – 2013 –
"التنمية الترابية: البديل الواعد لبناء الجهوية بالمغرب" – ندوة من
تنظيم كلية الاداب والعلوم الانسانية سايس في موضوع : الجهوية المتقدمة بالمغرب:
الحكامة الترابية ورهانات التنمية المحلية.
19)
محمد شاووش – 2014 – "أبعاد التنمية بين
رهان الحكامة وإعداد التراب المحلي". المجلة المغربية للتدقيق والتنمية –
العدد 38.
20)
محمد كمال التايعي – 2006 – "التنمية
البشرية المستدامة: المفهوم والمكونات" – مجلة مفاهيم الأسس العلمية للمعرفة –
العدد 14.
21)
معمر قربة – "التشخيص الاستراتيجي كمدخل
لاتخاذ القرارات الاستراتيجية" – جامعة الاغواط.
22)
مهدي سهر غيلان وفايق جزاع ياسين وشيماء رشيد
محسين – "دراسة تحليلية لأهم مؤشرات التنمية المستدامة في البلدان العربية
والمتقدمة".
23)
موساوي محمد – 2005-2006 – "تحولات
العالم القروي ورهانات التنمية المحلية ببلاد المنزل" – رسالة دكتورة في
الجغرافيا – كلية الاداب والعلوم الانسانية القنيطرة.
24)
ميشار غودي وقيس الهمامي – 2005 –
"الاستشراف الاستراتيجي: المشاكل والمناهج"- كراس ليبوس cahier du LIPSOR- العدد 20.
25)
2013 - مشروع قانون حول إعداد التراب الوطني.
26)
2016- ندوة: الجهوية المتقدمة وتحديات
التنمية الترابية بالمغرب – كلية الاداب والعلوم الانسانية سايس.
27)
2018 - "الندوة الوطنية الاولى
في موصوع: المشاريع الترابية بسهل جرسيف وهوامشه. آفاق بناء المشروع التنموي الجديد"
– من تنظيم المجلس الإقليمي لجرسيف بشراكة مع مركز ومدة البحث في التراب والتهيئة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق